فصل: النهج القضائي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فقه السنة



.من يصلح للقضاء:

ولا يقضي بين الناس إلا من كان عالما بالكتاب والسنة فقيها في دين الله قادرا على التفرقة بين الصواب والخطأ. بريئا من الجور بعيدا عن الهوى.
وقد اشترط الفقهاء في القاضي أن يبلغ درجة الاجتهاد فيكون عالما بآيات الاحكام وأحاديثها، عالما بأقوال السلف ما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، عالما باللغة وعالما بالقياس، وأن يكون مكلفا ذكرا عدلا سميعا بصيرا ناطقا.
وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل.
فلا يصح قضاء المقلد ولا الكافر ولا الصغير ولا المجنون ولا الفاسق ولا المرأة لحديث أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة».
وقد اشترط الفقهاء أيضا مع هذه الشروط تولية الحاكم للقاضي فانها شرط في صحة قضائه وهذا بخلاف المتداعيين إذا ارتضيا حكما يقضي بينهما ممن ليس له ولاية القضاء، فقد أجازه مالك وأحمد ولم يجوزه أبو حنيفة إلا بشرط أن يوافق حكمه حكم قاضي البلد.
وقد ذكر الله لنا المثل الاعلى في القضاء فقال جل شأنه: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} وإذا كان هذا الخطاب موجها إلى داود عليه السلام فهو في الواقع موجه إلى ولاة الأمور لأن الله لم يذكر ذلك إلا ليبين لنا المثل الاعلى في الحكم وأن داود وهو نبي معصوم يخاطبه الله بقوله: {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}.
فإذا كان النبي وهو معصوم يخشى عليه من اتباع الهوى فأولى بأن يخشى على غيره من غير المعصومين.
وعن أبي بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار».
ومع الكتاب والسنة كان بعض القضاة يرجع في قضائه إلى أقوال الائمة واختيار الرأي القوي الذي يتفق مع الحق بعد انتهاء عصر الاجتهاد.
ذكر محمد بن يوسف الكندي أن ابراهيم بن الجراح تولى القضاء في سنة 204.
وقد قال عمر بن خالد: ما صحبت أحدا من القضاة كإبراهيم بن الجراح.
كنت إذا عملت له المحضر وقرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم ويرى فيه رأيه، فإذا أراد أن يقضي به دفعه إلي لانشى منه سجلا فأجد في ظهره: قال أبو حنيفة كذا.
وفي سطر: قال ابن أبي ليلى كذا.
وفي سطر آخر: قال أبو يوسف وقال مالك كذا.
ثم أجد على سطر منها علامة كالخط فأعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ السجل عليه.
وقد رأى بعض العلماء إلزام القضاة بالقضاء بمذهب معين منعا للاضطراب وبلبلة الافكار.
قال الدهلوي: إن بعض القضاة لما جاروا في أحكامهم صار أولياء الأمور يلزمون القضاة بأن يحكموا بمذهب معين لا يعدونه، ولم يقبل منهم إلا ما لا يريب العامة وتكون شيئا قد قيل من قبل.
قضاء من ليس بأهل للقضاء: قال العلماء: كل من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم، فإن حكم فهو آثم ولا ينفذ حكمه وسواء وافق الحق أم لا، لأن اصابة الحق اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا. وأحكامه مردودة كلها. ولا يعذر في شيء من ذلك.

.النهج القضائي:

وقد بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المنهج الذي ينبغي أن يسلكه القاضي في قضائه لما بعث معاذا إلى اليمن فقال له: «بم تقضي؟ قال: بكتاب الله قال: فإن لم تجد. قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد. قال: فبرأيي».
وعلى القاضي أن يتحرى الحق فيبتعد عن كل ما من شأنه أن يشوش فكره فلا يقضي أثناء الغضب الشديد أو الجوع المفرط أو الهم المقلق أو الخوف المزعج أو النعاس الغالب أو الحر الشديد أو البرد الشديد أو شغل القلب شغلا يصرف عن المعرفة الصحيحة والفهم الدقيق.
ففي حديث أبي بكرة في الصحيحين وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان».
فإذا حكم القاضي أثناء حالة من هذه الحالات صح حكمه إن وافق الحق عند جمهور الفقهاء.

.المجتهد مأجور:

ومهما اجتهد القاضي في معرفة الحق وإصابة الصواب فهو مأجور ولو لم يصب الحق.
فعن عمرو بن العاص أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وان اجتهد فأخطأ فله أجر».
قال الخطابي: إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة. ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الاثم فقط.
وهذا فيمن كان من المجتهدين جامعا لالة الاجتهاد عارفا بالاصول وبوجوه القياس.
وأما من لم يكن محلا للاجتهاد فهو متكلف ولا يعذر بالخطأ في الحكم بل يخاف عليه أعظم الوزر.
وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وانكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار».
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن أحدهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك وقالت الاخرى: إنما ذهب بابنك. فتحاكما إلى داود فقضى للكبرى. فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى». وهذا من فقه سليمان.
فقد عمد إلى هذا الاسلوب لمعرفة الأم الحقيقية فلما قال: ائتوني بالسكين أشقه، تحركت عاطفة الأم الحقيقية ورفضت أن يقتل ابنها وآثرت أن يبقى حيا بعيدا عنها على قتله. فاستدل سليمان بهذه القرينة على أنه ابنها.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة داود وسليمان فقال جل شأنه: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما}.
ذكر المفسرون: أن الغنم انتشرت في الزرع فأفسدته، وأن أصحاب الزرع اختصموا معهم فرفعت القضية إلى داود ليحكم فيها فحكم داود بالغنم لاصحاب الزرع.
فخرجا من عنده ومرا بسليمان فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه فقال سليمان: لو وليت أمركما لقضيت بما هو أرفق بالفريقين فبلغ ذلك داود فدعاه وقال: كيف تقضي؟ قال: أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ينتفع بدرها ونسلها وصوفها ومنافعها ويزرع صاحب الغنم لصاحب الحرث مثل حرقه فإذا صار الحرث كهيئته يوم أكل دفع إلى صاحبه وأخذ صاحب الغنم غنمه.
فقال داود: القضاء ما قضيت وحكم بذلك.

.الواجب على القاضي:

وعلى القاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء:
1- في الدخول عليه
2- والجلوس بين يديه
3- والاقبال عليهما
4- والاستماع لهما
5- والحكم عليهما والمطلوب منه التسوية بينهما في الافعال دون القلب، فإن كان يميل قلبه إلى أحدهما ويحب أن يغلب بحجته على الاخر فلا شيء عليه، لأنه لا يمكنه التحرز عنه.
ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته، لأن ذلك يضر بأحد الخصمين، ولا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف، ولا يلقن المدعى عليه الانكار والاقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أولا يشهدوا، ولا أن يضيف أحد الخصمين دون الاخر، لأن ذلك يكسر قلب الاخر، ولا يجيب هو إلى ضيافة أحدهما، ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا وخصمه معه، ولا يقبل الهدية من أحد إلا إذا كانت ممن جرت عادته بأن يهديه قبل تولي منصب القضاء، فإن الهدية إلى القاضي ممن لم تجر عادته بإهدائه تعتبر من الرشوة.
عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول».
وقال عليه الصلاة والسلام: «لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم».
قال الخطابي: وانما يلحقهما العقوبة معا إذا استويا في القصد والارادة، فرشا المعطي لينال به باطلا ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يدفع عن نفسه ظلما فإنه غير داخل في هذا الوعيد.
روي أن ابن مسعود أخذ في سبي وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله.
وروي عن الحسن والشعبي وجابربن زيد وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم.
وكذلك الاخذ انما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه على حق يلزمه أداؤه، فلا يفعل ذلك حتى يرشى.
أو عمل باطل يجب عليه تركه فلا يتركه حتى يصانع ويرشى. ا.هـ.
قال في فتح العلام: وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام: رشوة، وهدية، وأجرة، ورزق فالأول الرشوة إن كانت ليحكم له الحاكم بغير حق فهي حرام على الاخذ والمعطي، وإن كانت ليحكم له بالحق على غريمه فهي حرام على الحاكم دون المعطي لأنها لاستيفاء حقه، فهي كجعل الابق وأجرة الوكالة على الخصومة.
وقيل: تحرم لأنها توقع الحاكم في الاثم.
وأما الهدية وهي الثاني: فإن كان ممن يهاديه قبل الولاية فلا يحرم استدامتها وإن كان لا يهدي إليه إلا بعد الولاية: فان كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده، جازت وكرهت.
وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومة عنده فهي حرام على الحاكم والمهدي.
وأما الاجرة وهي الثالث: فإن كان للحاكم جراية من بيت المال ورزق منه حرمت بالاتفاق، لأنه إنما أجري له الرزق لاجل الاشتغال بالحكم فلا وجه للاجرة.
وإن كان لا جراية له من بيت المال جاز له أخذ الاجرة على قدر عمله غير حاكم، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه.
لأنه إنما يعطى الاجرة لكونه عمل عملالا لاجل كونه حاكما.
فأخذه لما زاد على أجر مثله غير حاكم إنما أخذها لافي مقابلة شيء بل في مقابلة كونه حاكما ولا استحق لاجل كونه حاكما شيئا من أموال الناس اتفاقا.
فأجرة العمل أجرة مثله، فأخذ الزيادة على أجرة مثله حرام.
ولذا قيل إن تولية القضاء من كان غنيا أولى من توليته من كان فقيرا.
وذلك لأنه لفقره يصير متعرضا لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال ا.هـ.

.رسالة عمربن الخطاب في القضاء:

ولقد وضع عمربن الخطاب الدستور المحكم للقضاء في الرسالة التي أرسلها إلى أبي موسى الاشعري نذكرها فيما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمربن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس. سلام عليك أما بعد: فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لانفاذ له، آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا لا يمنعك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل. الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرف الاشباه والأمثال فقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا استحللت عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا في ولاء أو نسب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والايمان، وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فان الحق في مواطن الحق يعظم الله به الاجر ويحسن به الذخر، فمن صحت نيته وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله، فما ظنك بثواب غير الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام.

.شفاعة القاضي:

وللقاضي أن يشفع الشفاعة الحسنة فيطلب من الخصوم أن يصطلحوا أو يتنازل أحدهم عن بعض حقه.
عن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعب بن مالك، فقال: «يا كعب، فقال،: لبيك يارسول الله، فأشار له بيده، أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلت يا رسول الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: قم فاقضه».

.نفاذ الحكم ظاهرا:

حكم القاضي لا يحل حلالا ولا يحرم حراما لحديث السيدة أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه. فإنما أقطع له قطعة من النار».
وقد حكى الشافعي الاجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام.
فإذا ادعى إنسان على آخر حقا وأقام الشهود على ذلك وحكم القاضي للمدعي فإنه يحل له أن يأخذ هذا الحق متى كانت البينة بينة صادقة.
فإذا كانت البينة التي أقامها المدعي كاذبة كأن كان الشهود شهود زور فحكم له بمقتضى هذه الشهادة فإن الحكم لا يغير الواقع ولا يبيح للمدعي أن يأخذ الحق المدعى لأنه على ملك صاحبه.
ولم يختلف أحد من الفقهاء في هذا، إلا أن أبا حنيفة قال: إن القضاء في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا..فإذا شهد شاهد زور عند القاضي على طلاق امرأة فحكم القاضي بالطلاق طلقت من زوجها بقضائه، وجاز لها أن تتزوج من آخر.
كما يجوز أن يتزوجها من شهد بطلاقها زورا.
وكذلك لو شهد شهادة زور على أجنبية أنها زوجة لرجل أجنبي ليست له بزوجة فحكم القاضي بمقتضى هذه الشهادة فإنها تحل له بمقتضى هذا الحكم.
وما ذهب إليه أبو حنيفة من التفرقة بين قضايا الدماء والأملاك وقضايا العقود والفسوخ غير صحيح لأنه لافرق بين هذا وذاك.
وخالفه في ذلك أصحابه.